في الشراكة بين أفريقيا وأوروبا: الخلاصات الرئيسية
شراكة في حاجة إلى التجديد في خضم سياق متحول خيم التشاؤم الأفريقي خلال مدة طويلة على التحاليل ذات الصلة بالاقتصاد والمجتمعات الأفريقية. فقد كانت الإغراءات في هذا الباب قوية، ولم يفلت من تأثيراتها البعض، حيث دأبوا على اعتبار أن هذه القارة محكوم عليها بالفشل، كما لو أنها لعنة أصابت الشعوب الأفريقية. ويعكس هذا الموقف رغم ذلك جهلا كبيرا بالواقع والتحولات الجارية. هذا وكان الأداء الاقتصادي متوسطا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، لكن القارة أفلحت في مواجهة النمو الديموغرافي القوي دون حدوث إفقار حقيقي للساكنة. ولم يكن انتعاش الاقتصاد الأفريقي خلال العقد الأخير من القرن الماضي مفاجئا. ويُفَسَّر في المقام الأول بارتفاع أسعار المواد الأساسية. ويُعزى أيضا إلى مجموعة من العوامل الداخلية. إذ أدت الإصلاحات الهيكلية إلى تحسين المناخ الماكرو-اقتصادي رغم كلفتها الاجتماعية المرتفعة. ولا يجب الاعتقاد مع ذلك أن أسباب سوء التنمية في أفريقيا قد اختفت. حيث تمتلك صعوبات القارة السمراء أسبابا واضحة المعالم، وعلى رأسها انعدام الاستقرار السياسي، وكون التنمية على الأمد البعيد خارج اهتمامات الدول، والمحسوبية المتفشية في مجتمعات بقيت بنياتها لعقود طويلة قائمة على إعادة توزيع الثروات لا على تراكمها. بيد أن هذه المعطيات والعناصر، التي تتقاسمها بلدان أخرى، ليست ثابتة. ولا يشكل النمو المسجل خلال السنوات الأخيرة إقلاعا اقتصاديا حقيقيا مماثلا لما تشهده بعض البلدان الآسيوية. وتمتلك القارة السمراء مؤهلات واعدة، خصوصا مواردها الطبيعية، التي مازالت مستويات استغلالها ضعيفة، وشباب ساكنتها. غير أنها تواجه عقبات كبرى من قبيل تخلف البنيات التحتية وعدم الانسجام بين برامج التربية والتكوين وحاجيات سوق العمل، علاوة على ثقل الاقتصاد غير المهيكل والزراعة المعاشية الأسرية.
يعتبر الاتحاد الأوروبي أقرب جيران أفريقيا وشريكها التجاري الرئيسي. إذ يعد أول مستثمر أجبني في القارة ومصدر التحويلات المالية الأول نحوها، بما في ذلك تلك المتصلة بالمساعدات الإنمائية (21 مليار يورو هو مجموع تمويلات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه سنة 2015).
وضع الاتحاد الأوروبي وأفريقيا منذ سنة 2000 لبنات شراكة معمقة قائمة على المصالح المشتركة. ويتم التركيز على مجموعة من العوامل عند الدفاع عن القيمة المضافة لهذه الشراكة، ولاسيما التوجهات الديموغرافية المتناقضة في القارتين، والأسواق الأفريقية المزدهرة، والإمكانيات الواعدة المرتبطة بتدفق المبادلات التجارية، والاستثمارات والتحويلات المالية بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي، والحاجة إلى تصنيع مستدام في أفريقيا، واكتساب التكنولوجيات والتحكم فيها، وتطوير البنيات التحتية، وتطلعات أفريقيا بخصوص الاندماج الإقليمي والقاري، وهمومها المتعلقة بالنمو العادل والشامل...صحيح أن أفريقيا ليست حدود الاقتصاد العالمي الجديدة، لكنها توفر فرصا هائلة بالنظر إلى نموها وطبقتها المتوسطة وتزايد أعداد ساكنتها في الوسطين القروي والحضري والحاجيات الهائلة لشعوبها. ويهتم الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية بشكل متزايد بأفريقيا بالنظر إلى مؤهلاتها من الموارد الطبيعية ونمو أسواقها وإعادة تصنيفها جيوسياسيا، ناهيك عن التأثيرات السلبية المحتملة أو الحقيقية الناجمة عن هشاشة القارة وغياب الأمن فيها وضغط تدفقات المهاجرين. وتمثل أفريقيا في الواقع تحديا كبيرا بالنسبة لأوروبا، ليس بحكم أسواقها ومواردها فقط، ولكن بسبب المخاطر الأمنية والبيئية والسكانية المتعلقة أساسا بمنطقة الساحل والقرن الأفريقي ووسط أفريقيا.
تعد اتفاقية كوتونو حجز الزاوية في هذه الشراكة، وقد نصت مقتضياتها على مجموعة من التدابير من بينها اتفاقيات التبادل الحر واتفاقات الشراكة الاقتصادية APE. وتهدف هذه الاتفاقات إلى اعتماد تدابير متبادلة لتحرير التجارة مقابل النفاذ إلى السوق الأوروبية. ويرتبط هذا الإصلاح التجاري بفكرتين متكاملتين: تشجيع التجمعات الإقليمية من جهة أولى وتقوية القدرات التجارية من جهة ثانية. ويشمل الجانب "التنموي" من هذه الشراكة الجديدة مجموعة من الأفكار الأخرى، من قبيل تضمين الاتفاقات بعدا سياسيا، وفتح الحوار مع المجتمع المدني، مع تمكين المنظمات غير الحكونية من الاستفادة من تمويلات الصندوق الأوروبي للتنمية.
وقد تكرس الاعتماد مؤخرا على المقاربة القارية، خصوصا بعد تبني استراتيجية أوروبا-أفريقيا المشتركة (SCEA) من طرف رؤساء الدول الأفريقية والأوروبية خلال القمة الثانية المنعقدة في لشبونة سنة 2007. وتتصور الشراكة في إطار هذه الإستراتيجية المشتركة العلاقات على أساس مقاربة طموحة تعتبر أن أوروبا وأفريقيا قارة واحدة ووحيدة، وتحدد الإطار السياسي العام للعلاقات بين الطرفين. وكان من الواجب أن يتم تنفيذ هذه الإستراتيجية وفق خطط عمل متتالية، وكان من المفروض أن توفر على الأمد البعيد إطارا مهما للعلاقات بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي. كيف نُقَيِّم إذن الجوانب التجارية والمالية والبشرية في هذه الاستراتيجية؟ هل يتعلق الأمر برؤية جديدة على الأمد البعيد للعلاقات بين أفريقيا وأوروبا؟ أم أنها سلسلة من المشاريع فقط؟ وألا يُصَعِّبُ التقسيم على أساس شراكات تقنية إمكانية رفع التحديات الجهوية؟
حصيلة قمة أبيدجان المنعقدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017
انعقدت الدورة الخامسة من قمة الاتحاد الأوروبي-أفريقيا يومي 29 و30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 بأبيدجان (الكوت ديفوار). يتعلق الأمر بإطار مؤسساتي للتباحث عن سبل تعزيز التعاون بين دول القارتين، وقد انكب المشاركون في هذه الدورة على مواضيع من قبيل القضايا الاستراتيجية المتصلة بالسلام والأمن وحقوق الإنسان والتغيرات المناخية والإرهاب العابر للحدود الوطنية والازدهار والإستراتيجية الأوروبية - الأفريقية المشتركة. وكان يفترض أن تكون قمة أبيدجان مناسبة للوقوف على حصيلة العلاقات الأوروبية – الأفريقية منذ انعقاد القمة الأولى سنة 2000 وتقييم التقدم المسجل ومحدودية تجسيد الطموحات المعلنة على أرض الواقع. كانت القمة إطارا مناسبا من أجل فحص الرؤية المشتركة من جديد وتحديد فرص التعاون الجديدة بقصد توسيع الروابط السياسية والاقتصادية والمالية والتجارية في ضوء التغيرات الطارئة في السياق الجيو-اقتصادي والجيو-سياسي العالمي، وكذلك بالنظر إلى مسلسل العولمة والأزمة التي تشهدها أوروبا ومشروع الاندماج الأوروبي. حيث يعد البريكسيت تجسيدا واضحا لهذه الأزمة التي سيكون لها تأثير على العلاقات بين أوروبا وأفريقيا. ناهيك عن التحديات المتصلة بأهداف التنمية المستدامة الجديدة في أفق سنة 2030. لقد نُظمت القمة الأوروبية الأفريقية أملا في تطوير مقاربة مشتركة بقصد "الاستثمار في الشباب من أجل تسريع النمو الدامج والتنمية المستدامة في القارة".
أعاد الإعلان الختامي للقمة، في فقرته الأولى، التأكيد على صحة الإستراتيجية المشتركة المعتمدة في لشبونة سنة 2007. ويعني هذا الأمر أن التزامات زعماء دول القارتين وجهودهم الجديدة استمرار لما تم خلال القمم السابقة، رغم تكييف نطاق الشراكة الجديدة وطبيعتها مع حاجيات السياق الراهن والتحديات القائمة على الأمدين القريب والمتوسط. ورغم تركيز القمة على قضايا الشباب والعمل، إلا أن ما استأثر باهتمام المشاركين وخصص له حيز زمني طويل هو إشكالية الهجرة، ولاسيما السيطرة على تدفقات المهاجرين نحو أوروبا ومراقبتها. ولم تتطرق المباحثات بما يكفي لسبل وضع إستراتيجية للوقاية من الهجرة وتدبيرها انطلاقا من أفريقيا وفيها. بل انكب القادة طويلا على قضية استعباد المهاجرين في ليبيا، وهو موضوع تناولته وسائل الإعلام طويلا، وجاءت فيه معظم التدخلات الملموسة الناجمة عن مشاورات القمة، بما في ذلك إجلاء المهاجرين أو تشجيعهم على العودة الطوعية. وتم في المقابل تجاهل جوانب مهمة وبالغة التأثير على حقيقة الهجرة في أفريقيا، وعلى رأسها المخاطر المنتشرة على امتداد الطرقات التي يجتازها المهاجرون والهجرة داخل البلدان الأفريقية وهجرة الأدمغة، ناهيك عن قنوات الهجرة القانونية نحو أوروبا. ولم يشمل جدول أعمال القمة جهودا ملموسة من أجل خلق فرص العمل وضمان دمج الشباب، على اعتبارهما أهم تحديين يواجهان القارة في العقود القادمة. ولعل هذا ما دفع أحد المحللين للقول: "نعالج تحديات على الأمد البعيد بتدخلات على الأمد القصير" .
وقد احتفظ قادة البلدان 83 المشاركين في القمة، عبر الإعلان السياسي ، بأربعة أولويات إستراتيجية، ولكن دون الالتزام بتدابير أو موارد ملموسة: تعبئة الموارد الضرورية للتحول الهيكلي في أفريقيا عبر رافعة خطة الاتحاد الأوروبي للاستثمارات الخارجية بأفريقيا (من المفروض أن تتم تعبئة 44 مليار يورو عبر الاستثمارات العمومية والخاصة على أساس التزام الاتحاد الأوروبي بتوفير ميزانية 4.1 مليون يورو عبر الصندوق الأوروبي للتنمية المستدامة)، والاستثمار في الأفراد من خلال النهوض بالتربية والعلوم والتكنولوجيا وتنمية المهارات (بما في ذلك برامج تبادل الطلاب بين القارتين)، وتعزيز المقاومة والسلام والأمن والحكامة، وأخيرا إدارة الحركية والهجرة وتدبيرهما. بخصوص النقطة الأخيرة، جدد زعماء القارتين الالتزام بمحاربة الأسباب العميقة للهجرة غير القانونية "بروح شراكة حقيقية وفي إطار المسؤولية المشتركة". وتعهدوا كذلك ببدء حوار "قاري" حول الهجرة كما سبق للاتحاد الأفريقي أن اقترح في مناسبات سابقة، وعكس توجه الاتحاد الأوروبي الداعي إلى اعتماد شراكات ثنائية مع البلدان الأفريقية، ولاسيما فيما يتعلق بترحيل المهاجرين السريين وإرجاعهم.
باستثناء هذه المبادئ الكبرى والخطوط العريضة، وهي في واقع الأمر استمرارية لخطابات القمم السابقة ومقارباتها، لم يتم القيام خلال القمة الخامسة بأي تقييم لانجازات الشراكة، التي بدأت قبل 17 سنة، ولم تقترح أي تعديل –وإن كان هذا الأمر ضروريا- على أنماط الشراكة وأدوات وآليات اشتغالها بما يتناسب مع التحديات الجديدة والسياق الجديد. هذا على الرغم من اتفاق العديد من الملاحظين والمحليين على وجود "اختلال في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي"، كما ورد في تقرير مجموعة الأزمات الدولية International Crisis Group بهذا الخصوص .
يولي الطرفان على أي حال أهمية كبيرة لهذه الشراكة. ولا شك أن الجهود الكبيرة المبذولة عند التحضير للقمة والمستوى الرفيع للمشاركين فيها دليل على ذلك (أكثر من 5000 مشارك، بما في ذلك 16 رئيس دولة أو حكومة أوروبية وعلى الأقل 43 زعيما أفريقيا). كان من المفروض إذن أن تكون قمة أبيدجان فرصة للتفكير في إطار الشراكة بين أوروبا وأفريقيا، وهو للإشارة إطار غير ملزم، بيد أن المباحثات لم تتطرق لآليات الشراكة وتمويلها ولا للتتبع الضروري من أجل جعلها حقيقة على أرض الواقع.
ويبدو من الضروري، سنتين بعد قمة أبيدجان، إطلاق تقييم مشترك لجهود تنفيذ وأنماط اشتغال وأول نتائج الصندوق الاستئماني لحالات الطوارئ، الرامي إلى تعزيز الاستقرار ومحاربة الأسباب العميقة للهجرة غير القانونية وظاهرة النازحين في أفريقيا والذي أنشئ خلال القمة الأوروبية-الأفريقية حول الهجرة المنعقدة في لافاليتا سنة 2015 (بميزانية أولية ناهزت 1.8 مليار يورو، ثم تم رفعها إلى 3.37 مليار يورو، ضمنها مبلغ 2.98 مليار يورو على شكل مساعدات إنمائية سبق للاتحاد الأوروبي أن تعهد بها في إطار مختلف آليات التمويل الأخرى).
ولم تساهم القمة أبدا في تقليص الهوة القائمة بين الأولويات الأوروبية والأولويات الأفريقية في إطار هذه الشراكة. فبينما تَعتبر البلدان الأوروبية مسألة مواجهة الهجرة غير القانونية وتدبير تدفقات المهاجرين رهانها الأساسي، وأضحى هذا التحدي ضمن أولويات سياساتها الخارجية بشكل متزايد، تجد الحكومات الأفريقية نفسها تحت ضغوط ضرورة خلق فرص العمل وتوفير آفاق اقتصادية واعدة للشباب وإطلاق مسلسل تنمية قادر على التحكم في الصعوبات المتنامية الناجمة عن إشكاليات تدبير الموارد الطبيعية. وتهدد هذه الهوة بتجميد أي تقدم في الشراكة الأوروبية – الأفريقية في المستقبل، لاسيما بالنظر إلى تزايد وعي البلدان الأفريقية والاتحاد الأفريقي، كمؤسسة إقليمية، بقوتها ومصالحها وتشكيكها في مدى رجاحة وضع الطرف الأوروبي لأجندة الشراكة.
ولم يحدث خلال القمة الإجماع الضروري حول قائمة المشاريع ذات الأولوية التي كان من المفروض أن تكون ضمن ملحقات البيان الختامي (أرسل الاتحاد الأفريقي قائمة اعتبرتها المفوضية الأوروبية غير مقبولة). وأشار البيان ضمنيا إلى هذا الاختلاف، حيث التمس من المفوضيتين (الأوروبية والأفريقية) "وضع خطة عمل في أجل أقصاه ثلاثة أشهر بعد صدور البيان (...) تحدد المشاريع والبرامج في إطار مجالات التعاون ذات الأولوية المشتركة بين الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي التي سيتفق الطرفان على تنفيذها، وإنشاء آلية مختصة مكلفة بالتتبع".
خلاصة القول أن القمة لم تستغل هذه الفرصة من أجل إعادة تأسيس الشراكة وتناول القضايا التنموية الكبرى في القارة. ونستطيع على أي حال الإقرار أن القمة لم ترق إلى التطلعات المعبر عليها في النصوص والوثائق التحضيرية الصادرة عن الاتحاد الأوروبي، أي "إعطاء دفعة جديدة للشراكة بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي" أو "إعطاء دفعة لتسريع التنمية" كما طلب بذلك البرلمان الأوروبي. فهل ستكون القمة السادسة، التي ستنعقد في أحد بلدان الاتحاد الأوروبي، بدء من سنة 2020، موعد إعادة تأسيس حقيقي للشراكة بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي؟
مقترحات من أجل شراكة في خدمة التنمية في أفريقيا
إن رهان العلاقات بين أفريقيا وأوروبا الأساسي هو دعم جهود البلدان الأفريقية الرامية إلى وضعها في "درب النهضة الاقتصادية". ويتعين بلوغ إجماع الطرفين حول تبني إستراتيجية يتم تنفيذها على الأمد البعيد، عبر إصلاحات متتالية للمؤسسات والهيئات، إستراتيجية تعترف على وجه الخصوص لأفريقيا بإمكانية بناء أسس استقلاليتها عبر تنويع أنشطتها.
ويمكن إعادة تأسيس العلاقات الأوروبية الأفريقية وفق مقاربة متغيرة الأبعاد، عبر إعطاء الامتياز للأهداف القطاعية التي تتجاوز التناقضات الوطنية والجيوسياسية (الماء والطاقة والتغذية والصحة والتربية والمناخ والتلوث والهجرة والأمن...). وبخصوص العديد من القضايا الإستراتيجية التي تحظى باهتمام دول جنوب أوروبا، ستسمح البناءات المتغيرة الأبعاد بتدبير الارتباطات المجالية والارتباطات بين الممتلكات المشتركة الإقليمية، عبر تعبئة فاعلين متعددين بفضل الدعم المالي الأوروبي والوطني (الجماعات الترابية والمنظمات غير الحكومية والشركات والدول). وستكون رافعات العمل ذات الأولوية في هذا الباب هي:
الأولوية التربوية والتدريبية وتشجيع المهارات والمقاولين
يستلزم تجويد قطاع التربية وتحرير الطاقات وتطوير روح الابتكار نماذجَ تربوية تتجاوز الصعوبات والعراقيل الموجودة من أجل ضمان استمتاع الشباب بحقوقهم. ويقتضي هذا الأمر كذلك ضمان استقرار البيئة المحيطة وتأمين الممتلكات والأشخاص من أجل فتح أفق التفكير على الأمد البعيد والتشجيع على مواجهة مخاطر المقاولة. يتعين تشجيع فتح حاضنات في مستويات ترابية مختلفة من أجل إنجاز آلاف المشاريع في إطار سلاسل اقتصادية أو أقطاب اقتصادية.
دعم التنمية المستدامة والشاملة
يوجد ضمان أمن الممتلكات والأشخاص المستدام على رأس الأولويات بطبيعة الحال. ولا يتسن بلوغ الأمن المستدام دون استئصال أسباب الفقر والهشاشة في النسيج الاقتصادي ودون النهوض بالأنشطة القانونية المدرة للدخل. ويحتاج هذا الأمر مبادرات موزعة مجاليا بخصوص فروع السلاسل الاقتصادية واستراتيجيات على الأمد البعيد من طرف مختلف الفاعلين ومشاريع دامجة وتعزيز مقاومة الساكنة في مواجهة مختلف الصدمات. حيث تقتضي التنمية المستدامة والشاملة إستراتيجيات على الأمد الطويل، وتحيل على جوانب متكاملة تشمل التربية والصحة والبنيات التحتية والسياسات القطاعية الأخرى على مستويات مختلفة.
توفير فرص العمل للشباب بفضل التنمية المجالية
أمام شيخوخة القارة الأوروبية وانتشار التشاؤم في أوساطها، تتطلع أفريقيا الشابة، بغض النظر عن مآسيها، إلى آفاق مستقبلية واعدة. وبما أن "إستراتيجية العرض" قائمة على "الاستثمارات" في الرأسمال البشري للشباب والتشغيل، يتعين أن يركز التعاون بين الجانبين على خلق مناصب الشغل، مع أخذ القيمة الاجتماعية بعين الاعتبار عند تقدير مردودية الاستثمارات العمومية. كما يجب البحث عن حلول مبتكرة، تتجاوز المقاربة المبنية على تعزيز القدرة على التكيف وتشجيع الشباب على دخول عالم المقاولة (بما في ذلك النهوض بما يعرف ب "الأنشطة المدرة للدخل" التي تؤدي في الغالب إلى استمرار الفقر). وينبغي تجريب نظام ضمانات الشغل والتكوين المعمول به في أوروبا منذ سنة 2014 في أفريقيا كذلك، شأنه في ذلك شأن مبادرات العمل المحلية على اعتبارها مدخل الشباب الأول إلى الحياة المهنية. ويقتضي النهوض بالتشغيل بذل مزيد من الجهود من أجل إدماج الشباب وتوفير الدعم المالي الضروري لمبادراتهم المشتركة. كما يستلزم بالفعل توفير آلية أفريقية-أوروبية مكلفة بالشباب من أجل مواجهة التحديات المشتركة ودراسة إمكانية إحداث آلية خاصة بالشباب المتطوعين.
اختيار المجال الترابي المناسب وتشجيع التآزر المجالي
تحمل دينامية التعمير الأفريقية في طياتها فرص إنمائية واعدة. فمن وجهة نظر عملية، تعد مناسبة لتجديد خطط ومخططات التنمية عبر إغناء التشخيص والتصورات المستقبلية. وعلى العكس من ذلك، في بلدان تعاني من التجزئة، تندرج التحركات التي تستهدف المجالات الفقيرة ضمن السياسات النادرة التي تسمح بتحسين ربط الجهات النائية بالأسواق والتزويد بالخدمات الضرورية (الماء والطاقة والتربية والصحة) وتعبئة الموارد غير المستغلة في سبيل التنمية وتعزيز مهارات الرأسمال البشري وتقوية أحاسيس الانتماء إلى الأمة. وتبقى هذه السياسات والتحركات أساسية في الوقت الراهن، ويمكنها مواكبة سياسات أخرى.
سلاسل زراعة القرب
عوض التحليل انطلاقا من اعتبارات قطاعية، القطاع الزراعي مثلا، يتعين إنجاز التحليلات على أساس سلاسل قيمة في مستويات مجالية مختلفة. حيث لا تعد مواجهة التحدي الغذائي مسألة بسيطة بحكم تنوع سلاسل التوريد بالنسبة لسكان المناطق الحضرية والتي تتنافس فيما بينها بشكل "مفتوح" حسب البلدان والمدن. وسيسمح تطوير مسارات التوريد المحلية والقصيرة بتثمين المنتجات الزراعية بشكل أفضل. وستستطيع الساكنة ذات الدخل المنخفض التزود بالمنتجات بكلفة أقل بفضل هذا القرب (انخفاض كلفة النقل وضرائب التصدير والاستيراد). في المقابل، يؤدي ارتفاع القدرة الشرائية في المدن إلى تطوير منتجات تحويلية ذات قيمة مضافة عالية. وينبغي أن يركز التعاون على دعم السلاسل المندمجة المحلية للتوريد في المدن وتقويتها من خلال ثلاثة محاور مرتبطة بسلاسل القرب: أ) تحسين مستوى المعارف والدراسات ذات الصلة بالاقتصاد الغذائي الحضري، ب) إنشاء منصات لتيسير المبادلات بين الفاعلين، ج) تشجيع التعميم انطلاقا من تجارب الشركات المغربية.
تعاون متعدد القطاعات في المجال الطاقي
مازالت الاتفاقات حول المحروقات بين البلدان الأوروبية والأفريقية في بداياتها، وتنتظرها دون شك آفاق واعدة بالنظر إلى أنها قادرة على الاستجابة لمصالح الأطراف المعنية كلها، خصوصا أن "نادي" البلدان الأفريقية المنتجة والمصدرة للمحروقات سيتوسع خلال السنوات القادمة.
تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص حول البنيات التحتية
يضطلع تطوير البنيات التحتية بدور أساسي في الاندماج الإقليمي. وينبغي أن تركز أفريقيا جهودها على تطوير البنيات التحتية في مجالات كالطاقة والنقل والزراعة والصحة والماء وتكنولوجيات الإعلام والاتصال، ناهيك على تقوية الربط داخل القارة الأفريقية وبين هذه الأخيرة وأوروبا. ويستوجب هذا الأمر تحديد البنيات التحتية ذات الأولوية على المستوى الإقليمي وعلى مستوى القارة (قطاعات النقل والطاقة وتكنولوجيات الإعلام والاتصال والماء) من أجل الزيادة في مستويات الربط البيني. ويبدو أن النهوض بخدمات النقل الآمن والفعال، عبر اللجوء إلى التكنولوجيات الحديثة، واحد من الأهداف ذات الأولوية. وينطبق الأمر ذاته على النهوض بالبنيات التحتية الرقمية حتى تصير منصات متعددة التخصصات قادرة على تقديم خدمات آمنة ونجيعة على المستوى الجهوي. ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلا عبر تشجيع مزيد من الانسجام في السياسات والقوانين والسهر على تطبيقها واحترامها وتقوية المؤسسات وتعزيز قدرات المؤسسات القارية والإقليمية.
ضخ دماء جديدة في اتفاقات الشراكة الاقتصادية
ينبغي أن يكون إبرام وتنفيذ اتفاقات شراكة اقتصادية رابح-رابح منطلق تجديد الشراكة الاقتصادية والتجارية بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا. غير أن هذا الأمل لم يتحقق، وزادت المفاوضات بشأنه من هوة سوء الفهم بين الطرفين. فبينما كان من المفروض أن تشكل اتفاقات الشراكة الاقتصادية حجز الزاوية في مسلسل تجديد الشراكة التجارية بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا، أضحت نقطة تبلور سوء الفهم المستشري بين الطرفين. حيث واجهت أوروبا صعوبات جمة في إقناع الدول الأفريقية على التوقيع على هذه الاتفاقات، بشكل منفصل في الغالب، وهو ما يتناقض مع مبادئ الجهوية المتفق عليها عند انطلاق المفاوضات، ومازالت مصرة على السير في الطريق الخاطئ بمحاولة تطبيقها لمقتضيات تلك الاتفاقات. وكان ينبغي أن تشكل القمة فرصة للبحث عن حلول لانشغالات البلدان الأفريقية وهمومها بخصوص اتفاقات الشراكة الاقتصادية، ومناسبة لأخذ بعد "التنمية" بعين الاعتبار في الاتفاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا، ناهيك عن آثارها على الاقتصادات الافريقية، وهو ما لم يحصل خلال قمة أبيدجان.
تقوية جاذبية الاستثمارات الأجنبية المباشرة
يملك الاتحاد الأوروبي وزنا هاما في الاستثمارات الأجنبية المباشرة في أفريقيا، رغم أن خروج المملكة المتحدة من هذه التجمع الإقليمي سيؤثر لا محالة على هذه المكانة. وعلاوة على الموارد الطبيعية الأفريقية المهمة (بما في ذلك المحروقات)، يجعل القرب من أوروبا القارةَ السمراءَ منطقة مفضلة لاستقرار الشركات الأوروبية الراغبة في ترحيل خدماتها. وسيعزز هذا الأمر دينامية الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الاتحاد الأوروبي نحو أفريقيا. وفي هذا الاتجاه، اعتمد الاتحاد الأوروبي مؤخرا خطة استثمارات خارجية جديدة بهدف إعطاء دفعة جديدة للاستثمارات في أفريقيا وفي بقية بلدان الجوار. وتهدف هذه الخطة إلى تعبئة ما يفوق 44 مليار يورو من الاستثمارات في أفق سنة 2020. رغم ذلك بقيت مستويات تعبئة الموارد المالية الأوروبية منخفضة ودون التطلعات المعلنة سواء تعلق الأمر بالتعاون الاستراتيجي الشامل أو القطاعي.
الانخراط في سلاسل القيم الإقليمية عبر ورقة الأفضلية الإقليمية
يوجد في أفريقيا هامش واسع للزيادة في القيمة المضافة. ويحتاج الارتقاء المنشود إلى عوامل أساسية منها احترام المعايير وتشجيع المقاولات على الصعيد المحلي وتحسين القدرات التقنية والفنية الداخلية. ويواجه إعطاء الامتياز لما هو وطني معيقات عند التفكير في الارتقاء بالمستوى. أليس من الأجدر فتح باب الامتياز والأفضلية على المستوى الإقليمي؟ تحمل إستراتيجية من هذا النوع في طياتها تحديات مهمة: توفير فرص عمل، نقل المهارات وإنشاء شبكة للمناولة الصناعية. ويعد بناء سلاسل قيمة إقليمية مسألة إستراتيجية. ويقتضي هذا الخيار وجود أسس صلبة، ولاسيما ثلاث لبنات كبرى: الامتياز والأفضلية الإقليمية والتآزر المجالي وقاعدة تراكم داخلية. ولن تكون إعادة بناء العلاقات بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي على أسس المصالح المتبادلة ممكنة دون هذه اللبنات الثلاثة.
مراعاة السياق الاقتصادي ومسلسل التنمية في تدبير الهجرات
يُضِرُّ الطابع المحوري لقضية تدبير المهاجرين بتوازن مقاربة الشراكة الأوروبية الأفريقية، وربما يتسبب في تناسي قضايا التنمية الحقيقية التي يجب أن تكون أساس العلاقات بين القارتين. ونحتاج في هذا الباب إلى رؤية شاملة، تتعامل مع الهجرة في إطار مسلسل التنمية والعولمة، مما يعني عولمة مقاربة هذه القضية التي يدافع عليها الاتحاد الأوروبي منذ سنة 2005، أي تضمين الشراكة إمكانيات الهجرة القانونية والتنقل (وهو ما اختفى تقريبا من الأدبيات منذ إعلان قمة لافاليتا)، وتوفير محفزات مالية عادلة لبلدان المهاجرين الأصلية عند الترحيل من أجل تعويض الخسائر المحتملة جراء انخفاض التحويلات المالية، والتفكير في مسألة التعويض على هجرة الأدمغة، وإشراك بلدان المنشأ في سياسات إدماج المهاجرين ببلدان الاستقرار. وبما أن 70 في المائة على الأقل من تدفقات المهاجرين في أفريقيا جنوب الصحراء داخلية، وبحكم أن بلدان شمال أفريقيا، وهي بلدان عبور لموجات المهاجرين، أضحت منخرطة أكثر فأكثر في تدبير هذه التدفقات نحو أوروبا، يجب التعامل مع قضية الهجرة في شموليتها، أخذا بعين الاعتبار التدفقات الداخلية والتحديات القائمة أمام بلدان العبور.
تعبئة الموارد...الداخلية أساسا
لازالت المساعدات الإنمائية، خصوصا تلك المتأتية من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، ضرورية حتى تساهم التمويلات، أيا كان مصدرها، في "إنتاج" تنمية حقيقية. ولازال رغم ذلك سؤال نجاعة هذه المساعدات وفعاليتها قائما ومصيريا. لكن لا ينبغي أن تشكل المساعدات المكون الإستراتيجي للتمويلات. وتنص أجندة 2063 على ضرورة بلوغ القارة الأفريقية للاستقلالية وتمكنها من تمويل تنميتها بمواردها الذاتية. ويشكل توسيع الوعاء الجبائي واحدة من الأولويات في هذا الصدد. ويقتضي تعبئة الموارد البحث عن مناهج مبتكرة وموارد على الأمد البعيد للاستثمارات ذات الأمد البعيد وتمويلات تمزج بين التسهيلات لفائدة المستثمرين وتساهم فيها الصناديق العمومية والخاصة، ناهيك عن رأسمال استثماري مدعوم من طرف مستثمرين مرجعيين لتشجيع تطوير صناديق تمويلية مختصة، بما في ذلك عبر تدبير الأصول. ويعد التمويل البديل الحلقة المفقودة في سلسلة التمويل الخاصة بشبكة المقاولات الصغرى والمتوسطة والمقاولات المتناهية الصغر. ويتعين في هذا الباب تبني منطق اقتصاد اقتراضي يحفز على الاستثمارات ذات المخاطر. ولعل حل أهم المشاكل المسجلة هنا هو أنظمة التجميع والتعاضد المختلفة وتوفير رأسمال مخاطر لفائدة المقاولين الذاتيين.
التقائية الشراكات وتكاملها
فقدت أوروبا الهيمنة التي كانت تفرضها على أفريقيا وعلى حوض البحر الأبيض المتوسط بعد انتهاء الاستعمار. ولم تصبح القارة السمراء محط اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية فقط، بل وعلى وجه الخصوص محط أنظار القوى الصاعدة، وعلى رأسها الصين. رغم ذلك ستكون أوروبا هي الخاسر الأكبر من التحديات الكبرى التي تهدد الفضاء الأفرو-متوسطي، أي سوء التنمية والفقر وضغط النمو الديموغرافي وغياب الأمن وعدم الاستقرار السياسي. لذلك سيكون من مصلحة الأطراف كلها، أوروبا ودول حوض البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا، ضمان مزيد من الالتقائية بين الشراكة الأورومتوسطية والشراكة الأورو-أفريقية جنوب الصحراء. يمكن حاليا التفكير في توسيع الشراكة الأورو-أفرو-متوسطية، والحديث عن كل منسجم، عن محور عمودي مشكل من أفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط وأوروبا. حيث سيكون حوض البحر الأبيض المتوسط مركز هذا التجمع الذي ينبغي له أن ينبني على منطق الشراكة الجديدة القائم على المساعدة الإنمائية والإنتاج المشترك. ويتعين أن يكون التعاون حول قضايا التنمية في أفريقيا وفق منطق ثلاثي الأبعاد. وتستطيع أوروبا، ويجب عليها، الاشتغال في أفريقيا مع بقية القوى الأخرى: مع الولايات المتحدة الأمريكية (منطق المبادلات) ومع الصين (منطق قطاعي). ولا ينبغي أن تعيق المنافسة التقائية المصالح، لأن تنويع أنسجة الإنتاج في أفريقيا رهين بتنويع الشراكات كذلك.
تحتاج أوروبا إلى ابتكار شراكة أكثر إيجابية وتفاعلية في علاقاتها مع أفريقيا. إذ لا يتعلق الأمر دائما بالموارد المالية، بل بالرؤية وانسجام الجهود والالتزام والصدق والحقيقة. وينبغي أن تكون هذه الشراكة لصالح أفريقيا. لذلك لن يصير لمشروع أوروبا-أفريقيا معنى، ولن يصبح مشروعا واعدا بحق، إلا إذا فهم الأوروبيون أنهم في حاجة لأفريقيا كما يحتاج الأفارقة لأوروبا.